كنز الفوائد - ج ١

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي

كنز الفوائد - ج ١

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الطرابلسي


المحقق: الشيخ عبدالله نعمه
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩١
الجزء ١ الجزء ٢

تكن ولها محدث متقدم عليها لأن جميعها هو مجتمع آحادها ولا يصح أن يختلف في الجمع والتفريق هذا الحكم فيها.

كما أن كل واحد من الزنج بانفراده أسود فالجميع باجتماعهم سود والحكم في ذلك واحد في الجمع والتفريق.

وقد اجتمع معنا على أن جميعها أفعال الفاعل وصنعة الصانع والعقول تشهد بوجوب تقدم الفاعل على أفعاله وسبق الصانع لصنعته وليس يخالف في ذلك إلا مكابر لعقله.

واعلم أن الملحدة لما لم تجد حيلة تدفع بها تقدم الصانع على الصنعة قالت إنه متقدم عليها تقدم رتبة لا تقدم زمان فيجب أن نطالبهم بمعنى تقدم الرتبة ليوضحوه فيكون الكلام بحسبه.

وقد سمعنا قوما منهم يقولون إن معنى ذلك أنه الفعال فيها والمدبر لها.

فسألناهم هل ذلك يدافع عنها حقيقة الحدوث فعادوا إلى الكلام الأول من أن كل واحد من أجزاء الصنعة محدث.

فأعدنا عليهم ما سلف حتى لزمهم الإقرار بحدوث الكل وطالبناهم بحقيقة المحدث والقديم فلم يجدوا مهربا من أن التقدم والقديم في الوجود على المحدث هو التقدم المفهوم المعلوم الذي يكون أحدهما موجودا والآخر معدوما.

وليس أيضا من شرط التقدم والتأخر في الوجود أن يكون ذلك في زمان والله تعالى متقدم على جميع الأفعال. وليس أيضا من شرط التقدم والتأخر في الوجود أن يكون ذلك في زمان لأن الزمان نفسه قد يتقدم بعضه على بعض ولا يقال إن ذلك مقتض لزمان آخر.

والكلام في هذا الموضع جليل ومن ألحق (١) فيه سقطت عنه شبه كثيرة.

_________________

(١) كذا في النسخة.

٤١

وقد كنت اجتمعت في الرملة برجل عجمي يعرف بأبي سعيد البرذعي وكان يحفظ شبها في هذا الباب وكنت كثيرا ما أكلمه وأستظهر بإثبات الحجة عليه فأورد علي شبهة كانت أكبر مما في يديه وتكلمت عليها بكلام لم أقنع به فأحكيه.

ثم إني كتبت كتابا إلى بغداد إلى حضرة سيدنا الشريف المرتضى ذي المجدين رضي الله عنه وذكرت الشبهة فيه فورد إلي جوابه عنها.

فأنا أذكر الشبهة والجواب وما وجدته بعد ذلك من الكلام في هذا الباب.

الشبهة

قال الملحد مستدلا على أن الصانع لم يتقدم الصنعة إني وجدت ظاهرهما لا يخلو من ثلاث خصال إما أن تتقدم الصنعة عليه أو أن تتأخر عنه أو أن يكونا في الوجود سواء.

وقد فسد باتفاق تقدمها عليه.

_________________

(١) ورد ذكر البرذعي في بعض رسائل حمزة بن علي الزوزني الذي يعتبر مؤسس المذهب الدرزي به يبدأ تاريخ الدروز سنة ٤٠٨ ه أقول ورد ذكر البرذعي في رسالة حمزة السادسة عشرة سنة ٤٠٨ ه والرسالة التاسعة عشرة وغيرها باسم أبي منصور البرذعي لا أبي سعيد كما ذكره المصنّف وقد يكون أبو سعيد البرذعي الذي لقبه الكراجكيّ هو نفس أبي منصور البرذعي الوارد ذكره في رسائل حمزة بن علي.

(٢) هو أبو القاسم عليّ بن أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي المعروف بعلم الهدى ، أكبر شخصية شيعية في القرن الرابع الهجري ، بالعلم والفقه والآثار والكلام والأدب والشعر وغيرها.

كان فقيها انتهت إليه زعامة الإماميّة في عصره ، كما كان أحد أعمدة علم الكلام والفلسفة الإسلامية ، والأدب والشعر واشتهر بعلم النجوم ، وبرز في غير ذلك من جوانب المعرفة والفكر.

وكان حاذقا في المناظرة والجدل ، حاجّ النظراء والمتكلّمين ، وناظر العلماء والمخالفين ، وقد عده ابن الأثير من مجددي مذهب الإماميّة في رأس المائة الرابعة. وتعتبر آراء الشريف المرتضى وآثاره سجلا كاملا لآراء الشيعية الإماميّة وأقوالهم ، وفي كتبه حفظت عقائدهم وآراؤهم الإسلامية. وله مؤلّفات عديدة أبرزها من المطبوع : الشافي والأمالي وتنزيه الأنبياء ، وهو من تلاميذ الشيخ المفيد. ولد في رجب سنة ٣٥٥ ه وتوفي ربيع الأوّل سنة ٤٣٦ ه وله في كتابنا (فلاسفة الشيعة) ترجمة بدراسة وإسهاب.

٤٢

قال ويفسد أيضا تقدمه عليها إذ كان لا يخلو من أن يكون تقدمه بمدة محصورة وتقدير أوقات متناهية أو بمدة غير محدودة وتقدير أوقات غير محصورة.

قال وإن كان تقدمها بمدة لا تحد وتقدير أوقات لا تتناهى وتحصر فلا آخر متناه وله أول وآخر فكما أن آخره حدوث الصنعة (١) فكذلك أوله حدوث الصانع ونعوذ بالله من القول بذلك.

قال وإن كان تقدمها بمدة لا تحد وتقدير أوقات لا تتناهى وتحصر فلا آخر لهذه المدة كما لا أول لها وإذا لم يكن لها آخر فقد بطل حدوث الصنعة. وإن نفيتم الأوقات والأزمان التي يصح هذا فيها فإنه لا يمكنكم إنكار تقديرها وفي التقدير يلزم هذا هنا.

قال فهذا دليل على أن الصنعة والصانع قديمان لم يزالا.

والجواب قاله الشريف المرتضى رحمه‌الله

أما الصانع من حيث كان صانعا فلا بد من تقدمه على صنعته سواء أكان قديما أو محدثا لأن تقدم الفاعل على فعله حكم يجب له من حيث كان فاعلا.

ويستوي في هذا الحكم الفاعل القديم والفاعل المحدث غير أن الصانع القديم يجب أن يتقدم صنعته بما إذا قدرناه أوقاتا وأزمانا كانت غير متناهية ولا محصورة.

ولا يجب هذا في الصانع المحدث بل يتقدم الصانع من المحدثين صنعته بالزمان الواحد والأزمان المتناهية المحصورة.

والذي يدل على أن الصانع لا بد من أن يتقدم صنعته ويستوي في هذا الحكم القديم والمحدث أنه لو لم يتقدم عليها لم تكن فعلا له وحادثة به لأن من

_________________

(١) لأنّه ان كان الصانع متقدما على الصنعة بمدة غير متناهية ، فلا يمكن والحال هذه أن يكون لها آخر ، كما لا يمكن حدوث الصنعة ، لأن حدوثها يعني تناهي المدة التي فرض عدم تناهيها ، وهذا خلف.

٤٣

شأن الفاعل أن يكون قادرا ولا يقدر على الموجود لأن وجوده يغني عن تعلق القدرة به فهذا يدل على استحالة مصاحبة الفاعل لفعله.

فأما تقدم الفعل على فاعله فأظهر فسادا لأن المؤثر في وجود الفعل وحدوثه كون فاعله قادرا فكيف يتقدم المؤثر فيه على المؤثر.

وأما تقدم الصانع القديم تعالى على صنعته فيجب أن يكون غير محصور الأوقات وإنما وجب ذلك فيه ولم يجب في الصانع المحدث لكونه قديما لأنه لو كان بين القديم والمحدث أوقات متناهية لخرج من أن يكون قديما ودخل في أن يكون محدثا لأن من شأن القديم أن لا يكون بوجوده ابتداء وتناهي ما بينه وبين الأوقات وبين المحدث يقتضي أن يكون بوجوده أول وابتداء.

فأما ما تضمنه السؤال من التقسيم والتعديل في إفساد تقدم الصنعة على الصانع على الاتفاق على ذلك فغير صحيح لأن مثل هذا لا يعول فيه على الاتفاق بل لا بد أن يعين طريق العلم إما من ضرورة أو استدلال وقد بينا ما يدل على أن الصنعة لا تتقدم الصانع.

فأما ما مضى من السؤال من إلزام نفي التناهي والآخر عن المدة التي تكون بين الصانع والصنعة كما نفى عنها الابتداء والتناهي من قبل أولها فغير صحيح ولا لازم لأنا قد بينا أنا متى جعلنا بين الصانع القديم وصنعته مدة متناهية الابتداء محصورة لحق القديم بالمحدث وخرج من أن يكون قديما.

وإذا جعلناها (١) محصورة الانتهاء لم يجب ذلك فيها ولا أدى إلى ما قد علمنا فساده من كون القديم محدثا ولا إلى غيره من ضروب الفساد فلم يلزم نفي الآخر عن المدة قياسا على نفي الأول.

وقد بين شيوخ أهل العدل (٢) في كتبهم الفرق بين هذين الأمرين وقالوا

_________________

(١) الظاهر سقوط كلمة (غير) هنا ، إذ لا يتم المعنى بدونها فتكون الجملة هكذا : وإذا جعلناها غير محصورة الانتهاء لم يجب ذلك فيها.

(٢) المراد بأهل العدل هم المعتزلة والإماميّة الذين يقولون باستحالة صدور الظلم والمنافي منه سبحانه ، إما لعدم قدرته عليه كما يقوله المعتزلة أو أكثرهم ، وإمّا لقبح صدوره عنه عقلا مع قدرته عليه كما يقوله الإماميّة.

٤٤

من المستحيل إثبات فاعل لم (١) يزل فاعلا وليس بمنكر ولا مستحيل إثبات فاعل لا يزال فاعلا وبينوا أن نفي التناهي والابتداء عن الأفعال من قبل أولها يخرجها من أن تكون أفعالا وليس نفي التناهي عنها من قبل آخرها يخرجها من أن تكون أفعالا.

وذكروا أن نعيم أهل الجنة وعقاب أهل النار دائمان لا انقطاع لهما ولا آخر ولم يؤد ذلك إلى المحال والفساد ما أدى إليه نفي التناهي عن الأفعال من قبل أولها.

وقالوا ليس بمنكر أن يدخل داخل دارا بعد دار أبدا بغير انقطاع.

ومن المستحيل المنكر أن يدخل دارا قبل دار أبدا بلا أول.

وقد استقصينا نحن هذا الكلام في مواضع كثيرة من كتبنا وذكرناه في الملخص (٢) وغيره من أجوبة المسائل والنقوض على المخالفين.

وأما ما تضمنه السؤال من أن هذا يدل على أن الصنعة والصانع قديمان لم يزالا فمناقضة ظاهرة لأن وصف المتصف بالقدم ينقض كونه صفة كما أن وصف القديم بأنه مصنوع ينقض كونه قديما.

وهل هذا إلا تصريح بأن المحدث قديم والقديم محدث ولا خفاء بفساد ذلك.

وهل آخر الجواب الوارد إلي من حضرة السيد الشريف المرتضى رضي الله عنه عن هذه الشبهة.

وجميع ما تضمنه من إطلاق القول بأن بين القديم وأول المحدثات أوقات لا

_________________

(١) ويفهم من هذه العبارة أن كون الفاعل مرتبطا بما يصدر عنه من أفعال ، فإذا كان الفاعل فاعلا منذ الأزل كانت أفعاله منذ الابتداء قديمة معه وتخرج عن كونها أفعالا محدثة ، لذلك يستحيل كونها قديمة وبالتالي استحالة أن يكون الفاعل لم يزل فاعلا. على خلاف اثبات فاعل لا يزال فاعلا من حيث الآخر إلى غير نهاية فلا استحالة إذ لا يخرجها ذلك عن كونها أفعالا.

وهذا يتضح من قوله : وبينوا أن نفي التناهي إلخ.

(٢) هو كتاب للشريف المرتضى في الأصول ، ذكره الشيخ أبو جعفر الطوسيّ ، والنجاشيّ ، وابن شهر أشوب.

٤٥

أول لها فإنما المراد به تقدير أوقات دون أن يكون القصد أوقاتا في الحقيقة لأن الأوقات أفعال.

فقد ثبت أن للأفعال أولا فلو قلنا إن بين القديم وأول الأفعال أوقاتا في الحقيقة لناقضناه ودخلنا في مذهب خصمنا نعوذ بالله من القول بهذا.

جواب آخر عن هذه الشبهة

وقد قال بعض أهل العلم إنه لا ينبغي أن نقول بين القديم وبين المحدث لأن هذه اللفظة إنما تقع بين شيئين محدودين والقديم لا أول له.

والواجب أن نقول إن وجود القديم لم يكن عن عدم.

ونقول إنه لو أمكن وجود حوادث بلا نهاية ولم يتناقض ذلك لأمكن أن يفعلها حادثا قبل حادث لا إلى أول فيكون قد وجدت حوادث بلا نهاية.

ولسنا نريد بذلك أنه كان قبل أن فعل مدة يزيد امتدادها لأن هذا هو الحدوث والتجدد وهو معنى الزمان والحركة.

فإن قال قائل إنه لا يثبت في الأوهام إلا هذا الامتداد.

قيل له ليس يجب إذا ثبت في الوهم أن يكون صحيحا.

أليس عندكم أنه ليس خارج العالم خلاء وذلك غير متوهم.

ثم يقال لهم أيثبت في الوهم ذلك مع فرضكم نفي الحركات والتغييرات أم مع فرضكم إثبات ذلك.

فإن قالوا مع فرضنا إثبات ذلك قيل لهم فيجب مع نفي ذلك أن لا يثبت هذا التوهم.

وإن قالوا يثبت هذا التوهم مع فرضنا نفي ذلك.

قيل لهم فقد ثبت في التوهم النقيضان لأن هذا التوهم هو أن ينتقل ويمتد.

قال ثم يقال أرأيتم لو قال لكم قائل ليس يثبت في ذهني موجود ليس في

٤٦

جهة فيجب أن يكون الباري عزوجل في جهة أليس يكون يمكن أن يقال إنما يثبت ذلك في الوهم متى فرضتموه جسما.

وأما متى فرضتموه غير جسم ولا متحيز فإنه لا يثبت ذلك في الوهم فهكذا يكون جوابنا لكم.

ثم قال هذا المتكلم

فإن قالوا فإذا لم تثبتوا مدة مديدة قبل الفعل فقد قلتم إن الباري سبحانه لم يتقدم فعله.

قيل بل نقول إنه يتقدم على معنى أن وجوده قارن عدم فعله ثم قارن وجود فعله وقولنا ثم يترتب (١) على عدم الفعل لا غير.

قال ونقول إذا فعل الله سبحانه شيئا إنه يجوز أن يتقدم على معنى أنه يفعله فيكون بينه وبين يومنا من الحوادث أكثر مما هو الآن وليس الكثرة والتقدم والتأخر راجعا إلا إلى الحوادث دون مدة يقع فيها.

ثم تكلم في نفي المدة فقال :

والذي يبين أن تقدم الحركات وتأخرها يثبت من دون مدة يقع فيها أنه لا يخلو هذه المدة من أن يكون شيئا واحدا لا امتداد فيه ولا ينقل من حال إلى حال أو يكون فيه تنقل وامتداد.

والأول يقتضي إثبات الزمان على غير الوجه المعقول ويقتضي أن تكون الأشياء غير متقدم بعضها على بعض إذا كان بالأجل تقدمه وتأخره تتقدم الأشياء وتتأخر ليس فيه تقدم وتأخر.

فليت شعري أثبت التقدم والتأخر بنفسه أم بغيره؟

إن كان يثبت فيه بغيره أدى إلى ما لا نهاية له وإن كان ذلك الزمان متقدما ومتأخرا بنفسه من غير أن يكون في شيء متقدم ومتأخر فهلا قيل ذلك في الحركات واستغني عن معنى غيرها

_________________

(١) لأن كلمة (ثم) من أدوات العطف مع ترتب مدخولها على ما قبلها ولا يلزم أن يكون ما قبلها أمرا وجوديا بل يكفي في صحة الترتب مقارنة مدخولها لما قبله وإن كان عدما.

٤٧

فصل وبيان

وهذه الطريقة التي حكيتها هي عندي قاطعة لمادة الشبهة كافية في إثبات الحجة على المستدل وهي مطابقة لاختيار أبي القاسم البلخي لأنه لا يطلق القول بأن بين القديم وأول المحدثات مدة.

ويقول إنه أي الصانع تعالى قبلها بمعنى أنه كان موجودا ثم وجدت وهو معنى ما ذكر هذا المتكلم في قوله إن وجوده قارن عدم فعله ثم قارن وجود فعله فهو على هذا الوجه قبل أفعاله.

واعلم أيدك الله أن العبارات في هذه المواضع تضيق عن المعاني وتدعو الضرورة إلى النطق بما عهد ووجد في الشاهد وإن لم يكن المراد حقيقة في المتعارف ويجوز ذلك إذا كان مؤديا لحقيقة المعنى إلى النفس كقولنا قبل وبعد وكان وثم فليس المعهود في الشاهد استعمال هذه الألفاظ إلا في الأوقات والمدد.

فإذا قلنا إن الله تعالى كان قبل خلقه ثم أوجد خلقه فليس هذا التقديم والتأخير مفيدا لأوقات ومدد وقد يتقدم بعضها على بعض بأنفسها من غير أن يكون لها أوقات أخر.

وكذلك ما يطلق به اللفظ من قولنا إن وجود الله قبل وجود خلقه. فليس الوجود في الحقيقة معنى غير الموجود وإنما هو اتساع في القول والمعنى مفهوم معقول.

وقد سأل أبو القاسم البلخي نفسه فقال:

إن قال قائل أخبرونا عن أول فعل فعله الله تعالى أكان من الجائز أن يفعل قبل غيره؟

_________________

(١) هو أبو القاسم عبد اللّه بن أحمد بن محمود الكعبي البلخيّ توفّي سنة (٣١ ٧ ه) وهو من زعماء المعتزلة وشيوخهم ورأس طائفة منهم يقال لها الكعبية ، وهو أستاذ أبي جعفر محمّد بن عبد الرحمن المتكلم الشيعي المعروف (بابن قبة). وللبلخيّ مؤلّفات عديدة منها كتاب (عيون المسائل والجوابات) ذكره المسعودي في مروج الذهب ج صلى الله عليه وآله وسلم ١ ٥١. ولأبي القاسم البلخيّ آراء كلامية تنقل عنه في كتب الكلام والفرق.

(٢) في الأصل (والقول) ويبدو أن الواو فيها زائدة.

٤٨

وأجاب عن ذلك فقال هو جائز بمعنى أن يكون لم يفعله وفعل غيره بدله وفعله هو فأما غير ذلك فلا يجوز لأنه يؤدي إلى المحال.

وفي هذا القدر كفاية في الكلام على الملحدة الدهرية والحمد لله.

مسألة في تأويل خبر

إن سأل سائل فقال ما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الخبر المروي عنه :

لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر

الجواب

قيل له الوجه في ذلك أن الملحدين ومن نفى الصانع من العرب كانوا (٢) ينسبون ما ينزل به من أفعال الله تعالى كالمرض والعافية والجدب والخصب والفناء إلى الدهر جهلا منهم بالصانع جلت عظمته ويذمونه في كثير من الأحوال من حيث اعتقدوا أنه الفاعل بهم هذه الأفعال فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وقال لهم لا تسبوا من فعل بكم هذه الأفعال ممن يعتقدون أنه هو الدهر فإن الله تعالى هو الفاعل لهذه الأفعال وإنما قال إن الله هو الدهر من حيث نسبوا إلى الدهر أفعال الله تعالى.

وقد حكى الله تعالى عنهم قولهم :

(ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) سورة الجاثية : ٢٤

وقال لبيد : (٢)

_________________

(١) في الأصل (كما) واتساق الكلام يقتضي أن يكون كما ذكرنا.

(٢) هو لبيد بن ربيعة الشاعر الجاهلي المشهور الذي أدرك الإسلام وأسلم توفّي سنة (٤٠ ه) و (٦٦٠ م) وهو صاحب احدى المعلقات السبع التي أولها

عفت الديار محلها فمقامها

بمنى تأبد غولها فرجامها

 وله أمثال شعرية سائرة.

٤٩

في قروم سادة من قومه

نظر الدهر إليهم وابتهل

أي دعا عليهم. (١)

قصيدة في الآداب والأمثال لابن دريد (٢)

ما طاب فرع لا يطيب أصله

حمى مؤاخاة اللئيم فعله

وكل من آخى لئيما مثله

من يشتكي الدهر يطل في الشكوى

فالدهر ما ليس عليه عدوى

مستشعر الحرص عظيم البلوى

من أمن الدهر أتى من مأمنه

لا تستثر ذا لبد (٣) من مكمنه

وكل شيء يبتغى من معدنه

لكل ناع ذات يوم ناعي

وإنما السعي بقدر الساعي

قد يهلك المرعي عنف الراعي

من يترك القصد تضق مذاهبه

دل على فعل امرئ مصاحبه

لا تركب الأمر وأنت عائبه

من لزم التقوى استبان عدله

من ملك الصبر عليه عقله

نجا من العار وبان فضله

_________________

(١) تجد الكلام على ذلك في أمالي المرتضى ج (١) صلى الله عليه وآله وسلم ٤٥.

(٢) في الأصل (لابن دريده) وهو أبو بكر محمّد بن الحسن بن دريد الأزدي (٢٢٣ = ٣٢١ ه) من مشاهير علماء الأدب واللغة والشعر ، وهو شاعر ، له ديوان شعر ، وعده ابن شهرآشوب من شعراء أهل البيت ، وذكر من شعره قوله.

أهوى النبيّ محمّدا ووصيه

وابنيه وابنته البتول الطاهرة

 أهل الولاء فاني بولائهم

أرجو السلامة والنجا في الآخرة

وله مؤلّفات عديدة منها كتاب الجمهرة في اللغة ، وله مقاطيع محبوكة الطرفين ، وقصيدة في المقصور والممدود ، والمقصورة المشهورة التي تبلغ حوالي مائتي بيت ، وهو أستاذ لجماعة من العلماء منهم أبو سعيد السيرافي وأبو عبد اللّه المرزباني ، وقد مات هو وأبو هاشم الجبائي في يوم واحد ، فقال الناس يموت ابن دريد وأبو هاشم. انظر الفهرست صلى الله عليه وآله وسلم ٩١ = ٩٢ والأمل قسم (٢) صلى الله عليه وآله وسلم ٦٢.

(٣) صفة للأسد.

٥٠

يجلو اليقين كدر الظنون

والمرء في تقلب الشئون

حتى توفاه يد المنون

يا رب حلو سيعود سما

ورب حمد تحوز ذما

ورب روح (١) سيصير هما

من لم تصل فارض إذ حباكا

وأوله حمدا إذا قلاكا

أو أوله منك الذي أولاكا

ما لك إلا عليك مثله

لا تحمدن المرء ما لم تبله

والمرء كالصورة لو لا فعله

يا ربما أدرئت اللجاجة

ما ليس للمرء إليه حاجة

وضيق أمر يبتغي انفراجه

ليس يقي من لم يق الله الحذر

وليس يقدر امرؤ على القدر

والقلب يعمى مثلما يعمى البصر

كم من وعيد يخرق الآذانا

كأنما يعنى به سوانا

أصمنا الإهمال بل أعمانا

ما أفسد الخرق وساء الرفق

وخير ما أنبأ عنك الصدق

كم صعقة دل عليها البرق

لكل ما يؤذي وإن قل ألم

ما أطول الليل على من لم ينم

وسقم عقل المرء من شر السقم

أعداء غيب إخوة التلاقي

يا سوأتا لهذه الأخلاق

كأنما اشتقت من النفاق

أنف الفتى وهو صريم أجدع (٢)

من وجهه وهو قبيح أشنع

هل يستوي المحظوظ والمضيع

_________________

(١) الراحة والرحمة.

(٢) الصريم والأجدع بمعنى واحد وهو الأقطع.

٥١

ما منك من لم يقبل المعاتبة

وشر أخلاق الفتى المؤاربة

ينجيك مما نكره المجانبة

متى تصيب الصاحب المهذبا

هيهات ما أعسر هذا المطلبا

وشر ما طالبته ما استصعبا

أف لعقل الأشمط النصاب

رب معيب فعله عياب

ذم الكلام حذر الجواب

لكل ما يجري جواد كبوة

ما لك إلا إن قبلت عفوه

من ذا الذي يسقيك عفوا صفوه

لا يسلك الشر سبيل الخير

والله يقضي ليس زجر الطير

كم قمر عاد إلى قمير

لم يجتمع جمع لغير بين

لفرقه كل اجتماع اثنين

يعمى الفتى وهو البصير العين

الصمت إن ضاق الكلام أوسع

لكل جنب ذات يوم مصرع

كم جامع لغيره ما يجمع

ما لك إلا ما بذلت مال

في طرفة العين يحول الحال

ودون آمال الفتى الآجال

كم قد بكت عين وليس تضحك

وضاق من بعد اتساع مسلك

لا تبرمن أمرا عليك يملك

خير الأمور ما حمدت غبه

لا يرهب المذنب إلا ذنبه

والمرء مقرون بمن أحبه

كل مقام فله مقال

كل زمان فله رجال

وللعقول تضرب الأمثال

دع كل أمر منه يوما تعتذر

عف كل ورد غير محمود الصدر

لا تنفع الحيلة في ماضي القدر

٥٢

نوم امرئ خير له من يقظة

لم يرضه فيه الكرام الحفظة

وفي صروف الدهر للمرء عظة

مسألة الناس لباس ذل

من عف لم يسأم ولم يمل

فارض من الأكثر بالأقل

جواب سوء المنطق السكوت

قد أفلح المبتدئ الصموت

ما حم (١) من رزقك لا يفوت

في كل شيء عبرة لمن عقل

قد يسعد المرء إذا المرء اعتدل

ترجو غدا ودون ما ترجو الأجل

من لك بالمحض وليس محض

يخبث بعض ويطيب بعض

ورب أمر قد نهاه النقض

كم زاد في ذنب جهول عذره

ذا مرض يعنى عليك أمره

يخشى امرؤ شيئا ولا يضره

يا رب إحسان يعود ذنبا

ورب سلم سيعود حربا

وذو الحجى يحمل إن أحبا

قد يدرك المعسر في إعساره

ما لم يبلغ الموسر في إيساره

وينتهي الهاوي إلى قراره

الشيء في نقص إذا تناها

والنفس تنقاد إلى رداها

مذعنة يحتث سائقاها

الناس في فطرتهم سواء

وإن تساوت بهم الأهواء

كل بقاء بعده فناء

لم يغل شيء وهو موجود الثمن

مال الفتى ما قصه لا ما احتجن

إذا حوى جثمانه ثرى الجبن

_________________

(١) حمّ : قدّر

٥٣

المال يحكي الغي في أثقاله

وإنما المنفق من أمواله

ما غمر الخلة من سؤاله

من لاح في عارضة القتير (١)

فقد أتاه بالبلى النذير

ثم إلى ذي العزة المصير

رأيت غب الصبر مما يحمد

وإنما النفس كما تعدد

وشر ما يطلب ما لا يوجد

إن اتباع المرء كل شهوة

ليلبس القلب لباس قسوة

وكبوة العجب أشد كبوة

من يزرع المعروف يحصد ما رضي

لكل شيء غاية ستنقضي

والشر موقوف لدى التعرض

لا يأكل الإنسان إلا ما رزق

ما كل أخلاق الرجال تتفق

هان على النائم ما يلقى الأرق

من يلذع الناس يجد من يلذعه

لسان ذي الجهل وشيكا يوقعه

لا يعدم الباطل حقا يدمغه

كل زمان فله نوابغ

والحق للباطل ضد دامغ

لا يغصك المشرب وهو سائغ

رب رجاء قص من مخافة

ورب أمن سيعود آفة

ذو النجح لا يستبعد المسافة

كم من عزيز قد رأيت ذلا

وكم سرور مقبل تولى

وكم وضيع شال فاستقلا

لا خير في صحبة من لا ينصف

والدهر يجفو أمره ويلطف

والموت يفني كل عين تطرف

_________________

(١) القتير هو الغبار وأراد به هنا الشيب مجازا.

٥٤

رب صباح لامرئ لا يمسه

حتف الفتى موكل بنفسه

حتى يحل في ضريح رمسه

إني أرى كل جديد بالي

وكل شيء فإلى زوال

فاستشف من جهلك بالسؤال

آن رحيلا فأعد الزادا

آن معادا فاحذر المعادا

لا يملك العمر وإن تمادى

إنك مربوب مدين تسأل

والدهر عن ذي غفلة لا يغفل

وكلما قدمته محصل

حتى يجيء يومك المؤجل

فصل

روي عن أحد الأئمة عليه السلام أنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

إن الله عزوجل كتم ثلاثة في ثلاثة رضاه في طاعته وكتم سخطه في معصيته وكتم وليه في خلقه ولا يستخف أحدكم شيئا من الطاعات فإنه لا يدري في أيها رضا الله تعالى ولا يستقلن أحدكم شيئا من المعاصي فإنه لا يدري في أيها سخط الله ولا يزرين أحدكم بأحد من خلقه فإنه لا يدري أيهم ولي الله.

ومن كلامه صلى الله عليه وآله وسلم :

من سرته حسنته وساءته معصيته فهو مؤمن.

لا خير في العيش إلا لرجلين عالم مطاع ومستمع واع.

كفى بالنفس غنى وبالعبادة شغلا.

لا تنظروا إلى صغير الذنب ولكن انظروا إلى من اجترأتم.

وقال عليه السلام :

آفة الحديث الكذب وآفة العلم النسيان وآفة العبادة الفترة وآفة الطرف الصلف.

لا حسب إلا بتواضع ولا كرم إلا بتقوى ولا عمل إلا بنية ولا عبادة إلا بيقين.

٥٥

إن العاقل من أطاع الله وإن كان ذميم المنظر حقير الخطر وإن الجاهل من عصى الله وإن كان جميل المنظر عظيم الخطر.

أفضل الناس أعقل الناس إن الله تعالى قسم العقل ثلاثة أجزاء فمن كانت فيه كمل عقله ومن لم تك فيه فلا عقل له المعرفة بالله تعالى وحسن الطاعة وحسن الصبر.

إن لكل شيء آلة وعدة وآلة المؤمن وعدته العقل ولكل تاجر بضاعة وبضاعة المجتهدين العقل ولكل خراب عمارة وعمارة الآخرة العقل ولكل سفر فسطاط يلجئون إليه وفسطاط المسلمين العقل.

فصل

روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :

العقل ولادة والعلم إفادة ومجالسة العلماء زيادة.

وروي عنه عليه السلام أنه قال :

هبط جبرئيل عليه السلام على آدم عليه السلام فقال :

يا آدم أمرت أن أخيرك في ثلاث فاختر منهن واحدة ودع اثنتين فقال آدم وما الثلاث قال العقل والحياء والدين فقال آدم فإني قد اخترت العقل فقال جبرئيل للحياء والدين انصرفا فقالا يا جبرئيل إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان قال فشأنكما وعرج.

مسألة إن سأل سائل فقال كيف يحسن مخاطبة الحياء والدين وكيف يصح منهما النطق وهما داخلان في باب الأعراض التي لا تقوم بأنفسها ولا تصح الحياة والنطق منهما.

الجواب قيل له هذا مجاز من القول وتوسع في الكلام والمعنى فيه أنهما لو كانا حيين قائمين بأنفسهما تصح المخاطبة لهما والنطق لكان هذا حكمهما والمحكي عنهما جوابهما.

_________________

(١) سفر : القوم المسافرون.

٥٦

وقد يستعمل العرب ذلك في كلامها وهو نوع من أنواع فصاحتها قال الشاعر :

امتلأ الحوض وقال قطني (١)

مهلا رويدا قد ملأت بطني

ونحن نعلم أن الحوض لا يصح منه النطق ولكنه استعار النطق لأنه عنده لو كان في صورة ما ينطق لكان هذا قوله. خبر آخر في هذا المعنى وهو المشتهر بين الخاصة والعامة

من أن أول شيء خلق الله تعالى العقل فقال له أقبل فأقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك بك أعطي وبك أمنع وبك أثيب وبك أعاقب وعزتي وجلالي لا أكملتك إلا فيمن أحببت. (٢)

فالمعنى فيه نظير ما تقدم هو أن العقل لو كان قائما بنفسه حتى يوجد مفردا لكان أول شيء خلقه الله تعالى لفضله ولأن المنازل العالية لا تستحق إلا به ولو كان حيا قادرا لصح منه امتثال أمر الشارع إلى ما يؤمر به ولم يقع خلاف للمراد منه.

وهذا كله بينة على شرف العقل وجلالته وحث على وجوب الرجوع إليه والتمسك بحججه وفي القرآن لذلك نظائر.

فصل مما ورد في القرآن في هذا المعنى

فمن ذلك قول الله عزوجل

(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) النحل : ٤٠.

فدليل شاهد بأن المراد بذلك ليس هو القول ولا يصح فيه حقيقة الأمر.

لأنه لو كان يأمر الشيء في الحقيقة بالكون كان لا يخلو من حالين :

_________________

(١) معناه حسبي

(٢) تجد أكثر هذا الحديث في كتاب مشكاة الأنوار صلى الله عليه وآله وسلم ٢٢٧ وفي كتاب الأربعين للمجلسيّ وهو الحديث الثاني من أحاديثه صلى الله عليه وآله وسلم ٥ رواه بأسانيده.

٥٧

إما أن يأمره بذلك والشيء في حال عدمه أو في حال وجوده.

ومحال أن يأمره وهو في حال عدمه لأن المعدوم في الحقيقة ليس بشيء فيتوجه إليه الأمر.

والذين يثبتون أنه شيء في حال عدمه من المتكلمين (١) لا يخالفون في أنه لا يصح أن يؤمر.

ومحال أيضا أن يأمره وهو في حال وجوده لأن الموجود هو الكائن. ولا يقال للكائن كن كما لا يقال للساكن اسكن.

وأيضا فلو كان يأمره في الحقيقة بالكون لكان الشيء المأمور هو الذي يفعل نفسه ويكونها.

ولا يصح من شيء أن يفعل إلا أن يكون حيا قادرا ولا يصح منه أن يفعل الحكم المتقن إلا بعد كونه عالما.

وهذا كله (٢) على أن المعدوم لا يؤمر ولا يفعل نفسه.

ولم يبق إلا أن يكون ذلك مجازا في القول.

والمراد به الإخبار عن تيسر الفعل على الله سبحانه أنه إذا أراده وأنه غير متعذر منه ومتى أراد كونه كان بغير حائل ولا مانع حتى كان الذي يريده لو كان حيا قادرا يصح أن يكون نفسه ثم أمره الله تعالى بذلك ليبادر إليه ولم يتأخر عنه.

_________________

(١) اختلف المتكلمون في المعدوم هل هو شيء أم لا ، فذهب بعضهم إلى أن المعدوم في حال عدمه شيء ، واستدلوا بآيات منها : قوله تعالى (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) إذ سماه شيئا في حال عدمه ، وقوله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) عبر عنها بكلمة شيء وهي معدومة وقبل أن تكون. وأنكر بعضهم أن يكون المعدوم شيئا واستدلوا بآيات منها :

قوله تعالى :(وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) وقوله تعالى :(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) وقوله أيضا : (لم يكن شيئا مذكورا) فقد نفى عن الذي لم يكن وكان معدوما أن يكون شيئا وحملوا تلك الآيات التي استدل بها مثبتوا الشيئية للمعدوم كما فعل المؤلّف على المجاز.

(٢) لعله قد سقطت كلمة (يدل) ووضعناها ليستقيم الكلام.

٥٨

ومثل ذلك قول الله عزوجل :

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ). سورة فصلت : ٥٠.

وليس المراد أن السماء والأرض وهما جماد نطقتا وإنما المعنى تيسر فعلهما وما أراده فيهما.

فكأنهما لو كانتا في حكم الأحياء القادرين الذين يصح منهم النطق والإتيان لقالتا إذا أمرنا بالإتيان أتينا طائعين.

ونظير هذا في الكلام كثير.

والناس يجعلون من تيسر منه الفعل كان فعله قد أطاعه ويقولون للشاعر الحاضر الخاطر إن القوافي لتسمع له وتطيع وإنك لتراها رأي العين وإنها لمحصورة بين يديك.

ومرادهم أنها لا تتعذر عليه متى رامها ولا يتوقف شيء منها إذا قصدها.

فكأنها لو كانت في حيزها ترى لرآها أو في حكم من يطيع لأطاعت أمره إذا أمرها.

فأما الإخبار عن السماء والأرض بأنهما (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) بلفظ التذكير فيحتمل أن يكون المعنى أتينا بمن فينا ومن يصح فيه التذكير.

ومن ذلك قول الله عزوجل :

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) سورة ق : ٣٠.

وجهنم في الحقيقة لا يصح أن تخاطب ولا يقع منها القول.

فالمعنى أنها لو كانت في حكم من يخاطب ويصح منها القول لقالت (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ).

وقيل في الآية بوجه آخر.

وهو أن الذكر لها والخطاب في الحقيقة متوجه لخزنتها وهم القائلون (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ).

٥٩

وإنما أضيف ذلك إليها كما يقال :

قالت البلدة الفلانية أي قال أهلها.

وقال الله تعالى

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) والمراد أهلها.

ومن ذلك قول الله عزوجل

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) النور : ٢٤

وقوله جل اسمه :

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فصلت : ٢١

فالقول عندنا في ذلك كله إنه على الاستعارة ومجاز اللغة دون الحقيقة.

والمعنى فيه أن الجوارح لو كانت مما تنطق لنطقت على أصحابها بالشهادة وقالت أنطقنا الله.

وقد يجوز في أبعاض الإنسان ما تقام الشهادة بفعله وإن لم يكن نطق.

والعرب تقول :

رب عين أنطق من لسان ويقولون :

عيناك تشهد بسحرك ونظرك يدل على خبرك.

والشواهد على هذا كثيرة وفيما ذكرناه كفاية

مسألة من عويص النسب

ألا قل لابن أم حماة أمي

أنا ابن أخ ابن أختك غير وهم

فلو زوجت أختك من أخ لي

فأولدها غلاما كان عمي

وكان أخي لذاك العم عما

وصار العم مثل دمي ولحمي

فمن أنا منك أو من أنت مني

أجب إن كنت ذا لب وفهم

الجواب :

القائل ابن ابن المقول له هو خال أبي القائل وأخت المقول له هي أم أبي القائل.

٦٠